سورة الواقعة (056)
الدرس (4)
تفسير الآيات: (68-74)
أهمية خلق الماء وعظمة خلق النجوم وأهمية القرآن
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون : لازلنا في سورة الواقعة ومع الدرس الرابع من هذه السورة ومع الآية الثامنة والستين .
الحكمة من وراء هذه الآيات :
يقول الله عز وجل :
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ﴾
المزن هي السحاب :
﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾
قبل أن نتابع الحديث عن هذه الآيات لابد من وقفة متأنية تلقي ضوءاً على حكمة هذه الآيات .
أيها الأخوة : في القرآن الكريم كمٌّ كبير من آيات تتحدث عن الكون وعن النفس وعن قدرة الله وعن حكمة الله وعن صنعة الله وعن علم الله وعن خبرة الله ، هذه الآيات أيها الأخوة إن لم يكن لنا موقف منها ، إن لم نستجب لها ، فقد خسرنا .
اتهام الإنسان بالتقصير إن قرأ آيات الكون ولم يُعمل عقله بها :
أيها الأخوة : لو أن إنساناً أصدر تعليمات ، بعض هذه التعليمات لم يُطَبَّقْ ، هناك احتمالان : إما أن تكون هذه التعليمات غير واقعية أو أنَّ الذين أُلْقِيَتْ إليهم قصروا في تطبيقها .
على كلٍّ : تقصير الإنسان في تطبيق التعليمات فيه خسارة له كبيرة ، أمَّا إن لم تكن واقعية يقول أنا لا أستطيع أنْ أُطَبِّقَها . إذا كان في كتاب الله كمٌّ كبير من آيات الكون ، من آيات الآفاق ، من آيات الأنْفُس ، من إشاراتٍ إلى خَلْقِ الله ، إلى خَلْقِ الله في التضاريس ، في الجبال ، في الوِهَاد ، في السهول ، في الصحارى ، في البحار ، في النبات ، في الحيوان ، في الإنسان . هذا الكمُّ الكبير ، لماذا ذكره الله في القرآن الكريم ؟ إنْ لمْ يكن لنا منه موقف ، إنْ لم نتأثّر به ، إن لم نُعْمِلْ عقولنا في ثنياته ؛ فقد خسرنا. أمَّا أن نقول هذه الإشارات وهذا الكمُّ الكبير من آيات الكون لا معنى لها ، أو لا جدوى منها ؛ فقد كفرنا.
بقي أنَّ الإنسان مقصرٌ إذا قرأ آيات الكون ولم يُعْمِلْ عقله بها ، لماذا يقول الله عز وجل ﴿ أفرأيتم ﴾ أي انظروا.
ما خلق الله شيئاً إلا و كان الإنسان بحاجة إليه :
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴾
هذا الماء ، الحقيقة أن هناك فكرة دقيقة ، هي أنَّ كلَّ علوم البشر ما فعلت شيئاً إلا بالشكل أو بالمظهر ، الماء : الله خلقه ، خَلَقَه عذباَ فراتاً ، التكنولوجيا والعلم الحديث والتقدم الحضاري جرَّ الماء إلى أماكن معينة ، خَزَّنَهُ ، أساله في الأنابيب ، أوصله إلى البيوت ، جعله في قوارير ، لو لم يكن هناك ماء ، ما قيمة هذا العلم كله ..؟!!
يعني إنسان يأكل من طبق الطعام مباشرة وبشكل بدائي ، إنسان آخر يضع أطباقاً وملاعق و أدوات وزهور ، كل هذه الأدوات ، وكل هذا الكمّ الكبير من الأطباق والملاعق والأواني المنوعة ، إن لم يكن هناك طعام ، ما قيمتها !؟ لا قيمة لها إطلاقاً ، فالله عز وجل خلق الماء العذب الزلال ، فكل ما فعله البشر أنّهم خزّنوه ، وضعوه في قوارير ، نقلوه إلى البيوت ؛ أمَّا أنهم خلقوا ماءً عذباً فراتاً ، هذا من خَلْقِ الله ، فالذي خلقه الله الإنسان في أمسِّ الحاجة إليه ، وكلما تقدم العلم ازدادت حاجة الإنسان إليه .
لذلك يقولون أنَّ الحرب الآن هي حرب ماء ، كانت الحروب حروب بترول ثم أصبحت حروب قمح ، والآن هي حرب مياه بين الدول .
ظاهرة السحاب من آيات الله الدالة على عظمته :
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ﴾
أي موضوع السحاب ، موضوع أنَّ الهواء من خصائصه أنَّه يحمل بخار الماء ، والماء من خصائصه أنَّه على شكل سائل ، وعلى شكل غاز ، وعلى شكلٍ صُلب ، إذا بَرَّدْته أصبح صلباً ، وإذا كان بين درجتين معقولتين أصبح سائلاً ، فإذا غليته أصبح بخاراً ، طبيعة الهواء أنّها تحمل البخار ، ولكن هذه الطبيعة أنَّ الهواء يحمل البخار بحسب الحرارة ، فكلَّما سخن الهواء ازداد تَشَبُّعُهُ ببخار الماء ، فإذا قلَّت حرارة الهواء تخلى عن الماء الذي يحمله ، وهذا أصل المطر .
الشمس مُسَلَّطَةٌ على مسطحات مائية واسعة جداً تزيد عن أربعة أخماس الكون ، هذه الشمس تُبَخِّر الماء ، تقلبه من سائل إلى غاز ، هذا الغازيتخلل في الهواء ، فإذا ازدادت كثافته صار سحاباً ، والله سبحانه وتعالى يسوق السحاب من مكان إلى مكان ، فإذا التقى هذا السحاب بجبهة باردة ، تخلى هذا الهواء المشبع ببخار الماء عن مائه وانعقد الماء على ذرات من الهباب أو الغبار ، لابد من أن تنعقد عليها ، وأصبح مطراً ، فكأنك إذا عصرت الهواء بَرَّدته وعصرته تخلى عن بعض مائه فكان المطر :
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ﴾
خصائص الماء :
ظاهرة الماء وحدها من أدق الظواهر الدالة على عظمة الله عز وجل ، ظاهرة الماء وحدها ، هذا الماء ، لا لون له ، لا طعم له، لا رائحة له ، سريع التبخر ، يتبخر بدرجة 14 ، هذا الماء فيه خاصة لولاها لم نكن في هذا المسجد ، ولما وُجِدَتْ حياةٌ على سطح الأرض ، أن الماء إذا برَّدته إلى درجة +4 تنعكس الآية فبدل أن ينكمش يزداد حجمه ، ومع ازدياد حجم الماء إذا بردته تبقى سطوح البحار متجمدة بينما أعماقها سائلة ، لو لم تكن هذه الظاهرة كذلك لتجمدت البحار كلها حتى أعمق أعماقها ولانْعَدَمَ التبخر ولانْعَدَمَ المطر ولمات النبات ، ومات الحيوان وتبعه الإنسان ، مَنْ صمم هذه الظاهرة ؟ وإذا أردت أن تفهم تكتيك هذه الظاهرة ، شيءٌ لا يعقل .
قرأت مرة مقالة مترجمة كيف أن الماء إذا بردتَهُ في الدرجة +4 تنعكس الخاصة فيتمدد بدل أنْ ينكمش ، شيء من المدهشات ! هذه آية من آيات الله الدالة على عظمته .
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴾
على الإنسان أن يشكر الله عز وجل على نعمة الماء :
هل منا واحد إلا ويشرب عشرات الكؤوس من الماء ، لماذا يقول بسم الله الرحمن الرحيم ؟ يقول بسم الله الرحمن الرحيم ليذكر أنَّ هذه نعمة الله عز وجل ، الله خلقها وقدَّرها بحكمته وعلمه ورحمته ، وليذكر أنَّ هذا الماء ينبغي أنْ نشكر الله عليه وينبغي أنْ نشربه وفق السنة ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( مُصُّوا الماء مصَّاً ولاتعبُّوه عبَّاً ، فإن الكباد من العب ))
( ورد في الأثر )
مرض الكبد يتأتى من عبِّ الماء عبَّاً ، والأمر النبوي مصُّوا الماء مصَّاً والتوجيه النبوي أنْ تشربه وأنتَ قاعد ، والتوجيه النبوي أنَّكَ إذا شربت الماء اشربه على ثلاث دفعات ، والتوجيه النبوي أنَّه بين الشربتين يجب أنْ تبعد الإناء من فيك ، والتوجيه النبوي ألا تشرب من إناء مسلول لأن فيه الجراثيم ، فإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم ، يعني هذا الماء صنعه الله وينبغي أن تشكره عليه ، وينبغي أنْ تشربه وفق منهج الله ، كلُّ كلمةٍ أو كلُّ شيءٍ لا يبدأ بسم الله فهو أبتر ، فإذا أكلت ، وإذا شربت ، وإذا نمت ، وإذا استيقظت ، وإذا تزوجت ، وإذا سافرت ، وإذا عملت ، وإذا ألقيت درساً ، وإذا عالجت مريضاً ينبغي أن تقول بسم الله الرحمن الرحيم .
لا قيمة لحياة الإنسان دون ماء :
أيها الأخوة : يقول الله عز وجل:
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ ﴾
أنتم حفرتم الآبار ، أنتم ضخَخْتُم الماء إلى الأعلى ، أنتم نقلتموه في أنابيب ، أنتم خزنتموه ، أنتم تاجرتم فيه ، بِعْتُوهُ في قوارير ولكنكم أنتم أنزلتموه من المزن ؟ حينما يشاء الله أنْ تنحبس الأمطار عن بلدٍ سنين عديدة ، لو أنَّ أهل الأرض اجتمعوا وقرروا إنزال المطر، ما قيمة هذا القرار ؟ كلكم يعلم أنَّنا قبل الشهر الأول معدل ما نزل في دمشق 30 مم ، في حين أنَّ معدلها السنوي أكثر من 212 مم ، ماذا كنا نعمل لو استمر الجفاف حتى الآن ؟ ماذا نفعل بالينابيع التي جفَّت ، وبالأشجار التي يبست ، وبالحيوانات التي ماتت عطشاً ، ماذا نفعل ؟ ما قيمة دمشق ؟ ما قيمة أبنيتها الشاهقة ؟ ما قيمة الحياة فيها ؟
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾
(سورة المُلك : الآية 30)
الله جل جلاله .
عبادة التفكر في خلق الله من أرقى العبادات :
أيها الأخوة الكرام : إن لم تفكر في هذه الآيات فقد عطلتها ، وإن ادعيت أنَّها لا تقدم ولا تؤخر اتهمت الله عز وجل أنَّ كلامه ليس له معنى ، إله عظيم يقول لك :
﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾
(سورة الغاشية : الآية 17)
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾
(سورة عبس : الآية 24)
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾
(سورة الطارق : الآية 5)
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴾
معنى ذلك أنَّ عبادة التفكر هي أرقى عبادة على الإطلاق ، لأن هذه العبادة تجعلك تقدر الله حق قدره .
عبادة التفكر تجعل الإنسان يعرف الله ويقبل عليه :
قال الله عز وجل :
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾
(سورة الزُمر : الآية 67)
وهذا معنى أنَّ :
﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾
(سورة القدر : الآية 3)
إذا قدَّرت الله عز وجل وعرفته ، أقبلت عليه وسعدت بقربه في الدنيا والآخرة.
فضل الله على الإنسان بأن جعل له الماء عذباً فراتاً :
﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾
من جعل البحار مالحة ؟ الإنسان قد يركب البحر وقد يموت عطشاً ، يركب فوق أكبر كَمْ مائي في الأرض ، ما معنى المحيط الهادي ؟ يعني قارة أوروبا بأكملها وآسيا بأكملها وإفريقيا بأكملها و أوقيانوسيا بأكملها وأمريكا الشمالية والجنوبية ، القارات الخمس والقارتان القطب الشمالي والجنوبي ، القارات السبع لا تساوي خُمْسَ الأرض وأربعة أخماس الأرض بحار ، بعض الأعماق يصل إلى 12000 م (خليج ميريانا في المحيط الهادي) قد تركب البحر وقد يموت الإنسان عطشاً ، فلو أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل الماء ملحاً أجاجاً شيء فوق طاقة البشر ، وحتى هذه المحطات ، محطات التحلية ، لولا الدخل الفلكي من النفط لمَا أمكن أن تُنْفَقَ هذه الأموال الطائلة على تحلية المياه ، تحلية اللتر يزيد عن ثمن لتر البنزين.
ءأنتم جعلتموه هكذا عذباً فراتاً ، موضوع التقطير ، هي عملية تقطير ، ولكن هذا التقطير على مستوى البحار ، على مستوى الأرض ، شمسٌ ساطعة ، بحرٌ ذو مساحات شاسعة ، بخارٌ يتصاعد ، بخارٌ يتجمع ، سحبٌ تنتقل ، احتكاكٌ بين جبهةٍ باردةٍ وجبهةٍ ساخنة ، مبدأ الهواء يحمل بخار الماء ، مبدأ أن هذا التحميل متعلق بالحرارة ، تتبدل هذه الحرارة فينعقد الماء على بعض الذرات ويكوِّن قطراتٍ هي قطرات المطر ، ظاهرة المطر وظاهرة الماء .
مخزون الماء في الجبال يسيل بقدر حكيم بقدرة الخالق :
هذا البحر الكبير أُخذت منه هذه الأبخرة وأصبحت مياهاً مخزنة في آبار ، الله عز وجل قال :
﴿ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾
(سورة الحجر : الآية 22)
تجد كل بلدة لها ينبوع يسيل على مدار العام ، من جعله مخزوناً ؟ من أسَاله بشكل معقول ؟ أحياناً يتهدم السد فيقضي على كل شيء أمامه ، الكم المودع في الجبال أكبر من أكبر سد في العالم ، لكنه يسيل بشكل حكيم على مدار العام .
أيها الأخوة الكرام : ظاهرة الماء من الظواهر التي ينبغي أن نقف عندها، خصائص الماء ، تبخر الماء ، الماء لا يُضْغَط ، الماء إذا توسع فتت الصخور ، بل إنَّ تَصَدُّع الصخور وتحويلها إلى تربة خصبة من أحد آثار الماء .
النار أساس كل أداة بين يدي الإنسان :
﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴾
هذه النار قال علماء التاريخ " الحضارة بدأت مع النار "، هل من أداةٍ بين يديك مصنوعة إلا بتدخل النار ؟ سكين تستعملها لولا النار لما كانت هذه السكين ، لأنَّ هذه السكين أصلها حديد ، والحديد أصله فلزات ، والفلزات يعني ذرات حديد مع التراب ، ولولا أنَّ الله عز وجل جعل هذا الحديد على شكل فلزات لما أمكن أن نستفيد منها ، لو جعل ربنا عز وجل الحديد صرفاً كتل في أعماق الأرض لا يستطيع إنسان استخراجها ، أما جعل الحديد مع التراب ، فلزات الحديد مع التراب ، تنقل إلى الفرن العالي ، هناك تُصْهَرُ هذه الفلزات ويؤخذ الحديد ، لولا النار لما أمكنك أن ترى قطعة حديد في الأرض ، إذا دققت فيما تستعمله من أدوات ، اجعل هذا محور اهتمامك هذا الأسبوع ، أية أداة مهما ظننت أنَّها بدائية ؛ النار داخلة بها ، هذا الأثاث الذي تجلس عليه ؛ كان أشجاراً ، كيف صنع أثاثاً جميلاً لولا الحديد ، والحديد أساسه النار .
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴾
تورون أي تشعلون ، أورى النار أي أشعلها ، تعطيك الضوء ، تعطيك الدفء ، تُنْضِج لك الطعام والطعام بلا نار لا يؤكل .
فوائد الأشجار :
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ﴾
من جعل لهذه الأشجار خاصية الاحتراق ؟ يوجد أشياء لا تحترق ، وأشياء تحترق ولكن بدرجات غير معقولة ، الحديد يحترق ولكن بدرجة 1500 ، الصخر البازلتي يصبح بخاراً إذا شئت بدرجة 3000 ، فوق طاقة البشر !! لكن من جعل أشياء تحترق بدرجة مئة ؟ لذلك :
﴿ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ﴾
هذه الأشجار تعطيك الفواكه والثمار ، فإذا يبست أصبحت وقوداً لك . لكن في آية أخرى في سورة يس تشير إلى البترول :
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾
(سورة يس : الآية 80)
كل شيء خلقه الله يمكن أن يستفيد منه الإنسان حتى آخره :
لولا العصور المطيرة في الأرض التي أنشأت نباتات عملاقة ولولا الزلازل التي جعلت هذه النباتات في باطن الأرض ومضى عليها آلاف السنين لما كان هذا الوقود السائل .
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ﴾
إذاً هذه الطاقة التي خلقها الله عز وجل أصبحت رمزاً للعصر ، يقول لك العصر عصر بترول ، كل شيء يُصْنَع من البترول حتى الثياب ، حتى الخيوط ، أربعة أخماس أدواتنا من البترول ، هذا الكم الكبير الذي أودعه الله في الأرض ، صُنْعُ مَنْ ؟ مَنْ جعل تحت البترول ماءً مالحاً لئلا يغور في الأرض ؟ من جعل لهذا البترول ضغطاً غازياً كي يصعد بلا مضخات ؟ موضوع طويل لا ينتهي ! .
﴿ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ ﴾
يعني ربنا عز وجل لحكمة أرادها ، يخلق الشيء ، تنتفع به ثمراً ، تنتفع به خشباً ، تنتفع به رماداً ، كل شيء خلقه الله عز وجل يمكن أن تستفيد منه حتى آخره .
كل كلمة ما لم يكن لها مضمون واقعي لا معنى لها :
﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ﴾
الكلمات أيها الأخوة ما لم يكن لها مضمون واقعي لا معنى لها ، لو فرضنا أنَّ إنساناً لم ير البحر ولا صورة البحر إطلاقاً ، لو قلت له بحر ألف مرة لا يفهم منه شيئاً ، أما إذا ركب البحر ورأى أمواج البحر ، ورأى اتساع البحر ، ورأى عمق البحر ، ورأى ملوحة البحر ، ورأى جمال البحر ، ورأى شدة البحر، ورأى هياج البحر ؛ الآن إذا قلت له بحر ، هذه الكلمة تثير عنده كل الخبرات ، يضربون على هذا مثلاً درسناه في الجامعة : كلمة مشجب يعلق عليها كل إنسان حاجاته ، فلو أنَّ أستاذاً في الجامعة لم يُتَحْ له أنْ يكون أستاذاً ذا كرسي وسمع بكلمة كرسي يسبح خياله ساعات طويلة في متى يصبح أستاذاً بكرسي ؟ ولماذا لم يُتَحْ له أنْ يكون في هذا المنصب ؟ والذي في الكرسي ليس أفضل منه لا علماً ولا فهماً ولا خبرةً ، كل هذه المعاني وهذه الموازنات وهذه الخواطر أثارتها كلمة كرسي ، بينما يسمع هذه الكلمة إنسان يعمل في حلاقة الشعر ويحتاج إلى كرسي آخر ، يخاف أن ترتفع الضريبة عليه ، وألا يجد موظفاً يليق بالمحل ، يسبح بخاطره ساعات طويلة في موضوع آخر ، وقد يسمع هذه الكلمة إنسان مُتْعَب ، يقول أتمنى كرسياً أجلس عليه ، فالكلمة تثير خبرات .
إثارة آيات الجنة للإنسان عندما وصفها الله عز وجل :
لولا أنَّ الله سبحانه وتعالى (دققوا الآن) جعل في الجنة جمالاً وفي الأرض جمالاً ، جعل فيها جبالاً خضراء ، وبحاراً زرقاء ، وأطفالاً ذوي وجوه جميلة ، تجد الطفل الصغير كالبدر أحياناً ، لولا هذا الجمال لمَا أثارتك آيات الجنة :
﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾
(سورة البقرة : الآية 25)
فكل شيء وعدنا الله به أو عدنا منه ، في الدنيا منه شيء نقيسه به ، فربنا عز وجل يقول :
﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ﴾
هذه النار لِمَنْ ؟ للعصاة . ائتِ بشمعة ، ائت بعود ثقاب ، اشعله وضعه على إصبعك ، هل تحتمله ؟ كيف يحتمل الإنسان نار جهنم ؟
فوائد النار :
﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ ﴾
المقوين : المسافرين ، الإقواء : السفر ، مكان قواء : أي فارغ لا شيء فيه . فلان أصحر : أي دخل في الصحراء ، أقوى : دخل في الفلاة ، في المفازة ، في الصحراء ، فالمسافر يستمتع في النار .
﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ ﴾
ولو ذهبت أيها الأخ الكريم تعدد فوائد النار ، كيف أنك تنضج عليه الطعام ، وكيف أنها تشيع الدفء في المنزل ، أي منزل في الشتاء بلا نار لا يحتمل ، النار فاكهة الشتاء ، غرفة دافئة أثناء البرد الشديد هي أثمن عندك من كل شيء ، ما الذي يعطي هذه الحرارة ؟ النار إذا اشتعلت ، وكذلك التدفئة المركزية أساسها نار مشتعلة ، كل شيء تراه مريحاً أساسه النار ، الطعام الطيب أساسه النار التي أنضجته ، اللحم لا يستسيغه الإنسان إلا بعد شيِّهِ ، دقق في كل شيء تستعمله ، في كل شيء تأكله ، كيف أنَّ النار داخلة فيه ! .
حاجة الإنسان إلى النار :
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴾
طبعاً النار نار ، أمَّا في قداحات إلكترونية وفي أشياء حديثة ، تطور الشكل فقط وأمَّا المضمون هُوَ هُوَ ، لو أشعلت النار بالطريقة البدائية ، بحجر الصوان ، أو باحتكاك أغصان الأشجار ، أو شعلتها بآلة حديثة أو بكبسة زر ، النار نار ، الله خلقها ، وأنت في أمس الحاجة إليها .
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ ﴾
النار مصممة أن تكون كذلك ، أحياناً لا تتضح الأمور للإنسان ، فمثلاً يقول لك : هذا البلور اخترعه الإنسان ! جاء بالرمل وصهره فأصبح على هذا الشكل الشفاف ، الجواب بالعكس ، الله سبحانه وتعالى عَلِمَ بحاجتنا إلى جسم يمنع دخول الهواء ويسمح بدخول الضوء ، فصمم الرمل بهذه الخواص التي يمكن أن يصنع منه هذا البلور ، المرأة بحاجة إلى شيء تتزين به ، جعل المحار . الأصل أنَّ هذا المحار وفيه اللؤلؤ خُلِقَ خصيصاً ليكون زينةً للمرأة ، وهكذا ذكر القرآن ، وأنت حين تفهم الأشياء على هذا النحو ، هذه الأشياء مصممة خصيصاً كي تنتفع بها .
النار ،الماء ، الحيوان خلقوا خصيصاً تكريماً للإنسان :
الخروف مذلل وبشكل واضح خصيصاً ليكون نافعاً لك ، وكذلك الجمل والبقرة أما العقرب غير مذلل ، وكذلك الأفعى ، الضبع ، الوحوش الكاسرة ، كلها غير مذللة ، أما الغنم مذللة ، فالإنسان حين يرى حيواناً مذللاً ؛ ينبغي أن ينتبه إلى أن هذه الخاصة في الحيوان خُلِقَت خصيصاً تكريماً للإنسان . فهذه النار خُلِقَت خصيصاً ، أصل النار خُلِقَ خصيصاً ، هذا الماء العذب الفرات خلق خصيصاً .
﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ ﴾
المقوين : المسافرين .
التسبيح الحقيقي أنْ تعاين نِعَم الله عز وجل وتشكره عليها :
﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾
معنى سبحان الله هناك من يفهمها على هذا النحو : أمسك بالسبَّحة وقل سبحان الله ، سبحان الله ، هذا تسبيح لفظي ، ولكن التسبيح الحقيقي أن تجول في نعم الله عز وجل ، فكلما وصلت إلى نعمة قلت سبحان الله ، سبحان الله العظيم وبحمده ، سبحان الله العظيم ، التسبيح الحقيقي أنْ تعاين نِعَمَ الله عز وجل ، أنْ تتأملها ، أنْ تشكر الله عليها ، أنْ تستعظم صانعها وواهبها ، أنْ تعيش في معنى الحمد والشكر ، هذا هو التسبيح ، التسبيح هو التمجيد والتنزيه ، سبحان الله العظيم وبحمده سبحان الله العظيم :
﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾
أنت أحياناً ترى آية من آيات الله الدالة على عظمته بعد أن تتأملها ، بعد أن تعاينها ، بعد أن تحللها ، بعد أن تشعر بافتقارك إليها ، بعد أن ترى فضل الله عليك ، نعمة الله لك ، تقول وقد امتلأت إعجاباً : سبحان الله ! سبحان الله تقولها بعد تأمل ، وبعد بحث ودرس :
﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾
على الإنسان أن يسبح ربه بعد تفكره و استعظامه لنعم الله :
الآن دققوا أيها الأخوة : متى قال الله عز وجل :
﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾
بعدما قال :
﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ﴾
إن رأيتم ما تمنون وعلمتم أنكم لا تخلقونه بل نحن الخالقون ثم حينما قال الله عز وجل :
﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴾
ثم قال الله عز وجل :
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ﴾
ثم حينما قال الله عز وجل :
﴿ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ﴾
التسبيح أساسه التفكر في آلاء ونعم الله :
إن رأيتم ونظرتم وتفكرتم ودرستم وحللتم واستعظمتم وكبَّرتم عندئذ قولوا :
﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾
معنى ذلك أنَّ التسبيح أساسه التفكر في النعم ، أساسه التفكر في آلاء الله عز وجل ، في آياته الكونية والتكوينية ، وفي آياته القرآنية .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ : آية من آيات الله الدالة على عظمته :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾
المسافات في الأرض مثلاً دمشق - حلب /360 كم/ ، دمشق - جدة /1100كم/ ، مثلاً دمشق - لندن /5000 كم/ يعني أبعد نقطة في الأرض /20000 كم/ لأن محيط الأرض /40000/ ، أما إذا دخلنا في الفضاء الخارجي من الأرض إلى القمر /000 360كم/ يقطعها الضوء في ثانية واحدة ، إذا قلت ثانية فضائية تعني / 000 360 كم/ ، الأرض والشمس / 156 مليون كم / يقطعها الضوء في ثماني دقائق ، والمجموعة الشمسية والتي هي الأرض والمريخ والمشتري وزحل ونبتون وبلوتو وعطارد والزهرة ، هذه المجموعة الشمسية أقصى قطر لها /16 ساعة ضوئية/ ، الشمس 8 دقائق ، القمر 1 ثانية .
أقرب نجم ملتهب للأرض / 4 سنوات ضوئية / معنى أربع سنوات أي لو وجِدَ طريق لهذا النجم ولديك سيارة حديثة تسير بسرعة مئة تحتاج إلى 50مليون سنة لتصل له فقط ، إذاً بعد أقرب نجم ملتهب هو 4 سنوات ضوئية ، أمَّا أحدث مجرة /000 300 بليون سنة ضوئية / ، بإحدى محطات الأخبار العالمية قبل ستة أشهر تقريباً قالوا بأن مركبة قد أرسلت وبقيت تطير في الفضاء الخارجي ست سنوات بسرعة /000 40 ميل/ ووصلت للمشتري والذي هو ضمن المجموعة الشمسية ( ضمن 13 ساعة ضوئية) وعليها مرصد عملاق ، هذا المرصد التقط صورة مجرة تبعد عنا /000 300 بليون سنة ضوئية/ .
الكون غير محدود فكيف خالق الكون :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
لو تعلمون :
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
( سورة فاطر : 28)
هذا الإله العظيم يعصى !؟ الذي خلق الكون وهذه بعض أبعاده ، وهذه الأبعاد إلى الآن وصلنا إليها ، وما أدراكم أنَّ هناك مجرات تكتشف بعد حين ، تبعد عنا أضعاف مضاعفة ، عن أبعد مجرة اُكْتُشِفَتْ ، هذا الكون غير محدود فكيف خالق الكون ؟
﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾
جواب القسم :
﴿ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ﴾
القرآن العظيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه :
الذي خلق هذا الكون ، أنزل هذا القرآن ، الكون كله في كفة والقرآن في كفة .
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾
(سورة الأنعام : الآية 1)
الكون كله :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾
(سورة الكهف : الآية 1)
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ﴾
لذلك هذا كتابنا ، هذا منهجنا ، هذا كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، هذا كتابنا المقرر ، هذا الكتاب الذي ينبغي أن نقرأه كل يوم ، أنْ نقف عند آياته آية آية ، كلمة كلمة ، حرفاً حرفاً ، هذا الكتاب الذي كلما زدته فكراً زادك معنىً ، هذا الكتاب الذي لا غنىً فوقه ، ولا غنىً دونه ، هو الغنى ، منهج .
وجود الإنسان لا معنى له من دون منهج يسير عليه :
كنت مرة ذكرت لو تصورنا آلة معقدة جدا قيمتها 30 مليون ، يوجد الآن آلات كومبيوترية تحلل الدم بثواني ، تعطيه نقطة دم يعطيك 27 تحليل دقيق بثانية ومطبوعة ، لو أن هذا الجهاز ثمنه 30 مليون وهذه أسعار بعض الأجهزة الغالية واشتريت هذا الجهاز بهذا المبلغ الضخم ، ولم ترسل لك الشركة كتاب تعليمات التشغيلوالصيانة ، أنت الآن في مشكلة ، إن شغَّلت هذا الجهاز الغالي جداً بلا تعليمات أصبته بالخلل ، أعطبته ، وإن خفت أن يصاب بالخلل لم تستعمله ، جَمَّدْت ثمنه ، بربك أليست تعليمات الصانع لا تقل قيمةً عن هذا الجهاز هذا هو القرآن الكريم ، أنت من دون قرآن في شقاء، الدليل : أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾
(سورة الرحمن : الآيات 1-4)
كيف يعلم الله الإنسان قبل أن يخلقه ، هذا ليس ترتيباً زمنياً ، بل هو ترتيب رتبي ، يعني وجود الإنسان لا معنى له من دون منهج يسير عليه ، فمثلاً هل من الممكن أن تقود طائرة بدون علم ؟تقع رأساً ، لابد من أن تكون فاهماً لدقائق الطائرة ولأسلوب قيادتها وللتصرفات المناسبة في الوقت المناسب ، فالعلم أساسي في قيادة الطائرة وإلا سقوط حتمي .
القرآن الكريم قرآن نقي من كل شائبة :
يقول الله عز وجل :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ ﴾
نقي من كل شائبة ، تقول حجر كريم يعني ألماس ، نقاء مطلق ، لا يوجد كتابمن تأليف بشر إلا وفيه نقص ، فيه خلل ، فيه فكرة غير واضحة ، فيه معالجة غير عميقة ، فيه فكرة غلط ، فيه فكرة بلا دليل ، لكنك مع القرآن ، مع كتاب خالق الكون .
﴿ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾
قرآن كريم : نقي من كل شائبة ، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه .
من أسباب فهم كتاب الله أن تكون قريباً من الله ، طاهر النفس :
لو أمضينا العمر كله في قراءة القرآن وفهم آياته والعمل بها ، لمَا كان لهذا من بُدّ ، هذا هو المنهج ، قال لكن :
﴿ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ﴾
كتاب عزيز ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً ﴾
(سورة الإسراء : الآية 82)
وهو عمىً عليهم .وذكر أنَّ أولئك الذين لا يفهمون كتاب الله يُنَادَوْنَ من مكانٍ بعيد ، وهذه الآية تشير إلى أنَّ من أسباب فهم كتاب الله ، أن تكون قريباً من الله ، طاهر النفس ، لأنَّ هذا الكتاب :
﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾
الإنسان الذي يرتكب المنكرات لا يزيده القرآن إلا خسارة :
طبعاً المطهر هو الطاهر ، وهذا اللفظ من المشترك اللفظي بمعنى أنَّ الذي يقرأ في المصحف ينبغي أن يكون متوضئاًً ، طاهراً من الحدث الأكبر والأصغر ، والمعنى يصل إلى أنَّ الذي يريد أن يفهمه يجب أن يكون طاهر النفس ، لأن الذي يفعل المنكرات لا يزيده القرآن إلا خسارة :
﴿ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً ﴾
(سورة الإسراء : الآية 82)
تزداد خسارته وهو عمى عليهم ، ويقرأه ولا يفهم ، يُنَادى من مكانٍ بعيد .
من عوامل فهم القرآن :
1 ـ طهارة النفس :
إذاً من عوامل فهم القرآن : طهارة النفس:
﴿ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ﴾
محفوظاً ، ليس مبتذلاً .
2 ـ القرب من الله عز وجل :
فيه آيات لا تُفهمُ إلا بقربك من الله عز وجل ، فيه آيات تأخذها على ظاهرها ، تقول غير معقول ! وفيه آيات أخرى تفسر بعض الآيات ، وفيه آيات محكمات ، وآيات متشابهات :
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾
(سورة آل عمران : الآية 7)
فيه آيات تقرؤها ولا تفهمها ، وربَّما فهمتها فهماً معكوساً .
المعاني في القرآن تحتاج إلى دراسة وإعمال فكر :
لذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ﴾
يعني محفوظ ، ليس من البساطة أن تفهمه سريعاً هكذا ، النص الراقي يعطيك فرصة كي تتأمله ، المعاني في القرآن لا تؤخذ سريعاً ، تحتاج إلى دراسة ، إلى إعمال فكر ، إلى طهارة نفس ، إلى إخلاص ، إلى إقبال ، جزء من شروط فهم القرآن الكريم طهارة النفس ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾
هذه ﴿لا﴾ : لا النافية وليست لا الناهية ، لو كان لا يمسَسْهُ إلا المطهرون لانصرفت إلى الوضوء فقط ، أمَّا لأنَّ الله ينفي ولا ينهى ، ينفي من أفعاله التكوينية ولكن ينهى من أوامره التكليفية ، فهو ينفي أن يمسه إنسان غير طاهر ، فالخبيث والفاسق والشهواني والمنحرف والوصولي ، صاحب المصلحة ، المتعلق في الدنيا ، هذا يقرأ فلا يفهم ، أما المخلص الطاهر المستقيم ، الذي تحرى الحلال يقرأ فيفهم .
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ : آية محكمة ينبغي الوقوف عندها ملياً :
﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
أيها الأخوة : هذه الآية نحتاج إلى أن نعود إليها مرة ثانية لأنها أساسية جداً في فهم القرآن وهي من الآيات المحكمة التي ينبغي أن نقف عندها ملياً ، نحن وصلنا إلى قوله تعالى :
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
ولنا عودة إلى هذه الآيات في الدرس القادم إن شاء الله تعالى .
والحمد لله رب العالمين