بقلم: الشيخ محمود مهنا
أبو هريرة:
الإمام الفقيه المجتهد الحافظ صاحب رسول الله أبو هريرة الدوسي اليماني سيد الحفاظ الأثبات اختلف في اسمه على أقوال جمة أرجحها عبد الرحمن بن صخر. أما كنيته التي غلبت على اسمه فقد كُنّي بأولاد هرة برية، قال: وجدتها فأخذتها في كمي فكُنيت بذلك.
أمه رضي الله عنها هي ميمونة بنت صبيح، ويروي أبو هريرة قصة إسلامها فيقول: والله ما خلق الله مؤمناً يسمع بي إلا أحبني، فقيل له: وما علمك بذلك؟ قال: إن أمي كانت مشركة، وكنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى علي فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله ما أكره. فأتيت رسول الله وأنا أبكي فأخبرته وسألته أن يدعو لها. فقال: اللهم اهد أم أبي هريرة. فخرجت أعدو أبشرها. فأتيت فإذا الباب مجاف، وسمعت خضخضة الماء، وسمعت حسي، فقالت: كما أنت، ثم فتحت وقد لبست درعها وعجلت عن خمارها، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وقال: فرجعت إلى رسول الله أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن، فأخبرته وقلت: ادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين. فقال: اللهم حبب عُبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين وحببهم إليهما.
وقال أبو هريرة شهدت خيبر. صحبت رسول الله ثلاث سنين. ويقول: لما قدمت على النبي قلت في الطريق:
يا ليلة من طولها وعنائها على أنها من دارة الكفر نجت.
علمه:
حمل عن النبي علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه لم يُلحق في كثرته. حدّث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، فقيل بلغ عدد أصحابه ثمان مئة. وأبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من الرسول عليه السلام وأدائه بحروفه.
وكان أبو هريرة من أحفظ الصحابة، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثاً من أبي هريرة عن النبي. قال الشافعي أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. وقد كان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة. قال أبو هريرة: لا أعرف أحدا من أصحاب رسول الله أحفظ لحديثه مني. ما أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثاً مني عنه إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب.
جاء رجل إلى زيد بن ثابت فسأله عن شيء فقال: عليك بأبي هريرة، فإنه بينا أنا وهو وفلان في المسجد ندعو خرج علينا رسول الله فجلس وقال: عودوا إلى ما كنتم. قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي ورسول الله يؤمن، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألاك وأسألك علماً لا ينسى. فقال رسول الله: آمين. فقلنا: ونحن نسأل الله علماً لا ينسى. فقال: سبقكما بها الدوسي.
وقال أبو هريرة: إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، وتقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثله، وإن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة، ألزم رسول الله على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله في حديث يحدثه يوماً: إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول. فبسطت نمرة علي حتى إذا قضى مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله تلك من شيء.
وعن نافع قال: كنت مع ابن عمر في جنازة أبي هريرة فبقي يكثر الترحم عليه، ويقول: كان ممن يحفظ حديث رسول الله على المسلمين.
ويقول أحد التابعين: رأيت أبا هريرة يخرج يوم الجمعة فيقبض على رمانتي المنبر قائماً، ويقول: حدثنا أبو القاسم الصادق المصدوق. فلا يزال يحدث حتى يسمع فتح باب المقصورة لخروج الإمام فيجلس.
وذات يوم أقبل عليه الخليفة مروان مغضباً، وقال: يا أبا هريرة، إن الناس قد قالوا أكثر الحديث عن رسول الله وإنما قدم قبل وفاته بيسير. فقال: قدمت والله ورسول الله بخيبر، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات، وأقمت معه حتى توفي أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه وأغزو وأحج معه وأصلي خلفه فكنت والله أعلم الناس بحديثه.
وجاء رجل إلى طلحة بن عبيد الله فقال: يا أبا محمد أرأيت هذا اليماني، يعني أبا هريرة أهو أعلم بحديث رسول الله منكم، نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم، أم هو يقول على رسول الله ما لم يقل. قال: أما أن يكون سمع ما لم نسمع فلا أشك. سأحدثك عن ذلك إنا كنا أهل بيوتات وغنم وعمل كنا نأتي رسول الله طرفي النهار، وكان مسكيناً ضيفاً على باب رسول الله، يده مع يده، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع، ولا تجد أحداً فيه خير يقول على رسول الله ما لم يقل.
وقد كان ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة وجابر مع أشباه لهم يفتون بالمدينة ويحدثون عن رسول الله من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا قال وهؤلاء الخمسة إليهم صارت الفتوى. وكان ابن عباس يتأدب معه ويقول: أفت يا أبا هريرة.
قال الداني: عرض أبو هريرة القرآن على أبي بن كعب، وقرأ عليه الأعرج.
مسنده خمسة آلاف وثلاث مئة وأربعة وسبعون حديثاً المتفق في البخاري ومسلم منها ثلاث مئة وستة وعشرون، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين حديثاً، ومسلم بثمانية وتسعين حديثاً.
من المواقف:
دخل رجل على معاوية فقال: مررت بالمدينة، فإذا أبو هريرة جالس في المسجد حوله حلقة يحدثهم، فقال: حدثني خليلي أبو القاسم ثم استعبر فبكى ثم عاد فقال حدثني خليلي نبي الله أبو القاسم ثم استعبر فبكى ثم قام.
وعن أبي هريرة قال: والله إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت على طريقهم، فمر بي أبو بكر فسألته عن آية في كتاب الله ما أسأله إلا ليستتبعني، فمر ولم يفعل. فمر عمر فكذلك. حتى مر بي رسول الله فعرف ما في وجهي من الجوع، فقال: أبو هريرة، قلت: لبيك يا رسول الله. فدخلت معه البيت فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين لكم هذا؟ قيل: أرسل به إليك فلان. فقال: يا أبا هريرة انطلق إلى أهل الصفة فادعهم. وكان أهل الصفة أضياف الإسلام لا أهل ولا مال إذا أتت رسول الله صدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها شيئاً، وإذا جاءته هدية أصاب منها وأشركهم فيها. فساءني إرساله إياي فقلت: كنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها وما هذا اللبن في أهل الصفة ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد. فأتيتهم فأقبلوا مجيبين فلما جلسوا قال: خذ يا أبا هريرة فأعطهم فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى، حتى أتيت على جميعهم، وناولته رسول الله فرفع رأسه إلي متبسماً وقال: بقيت أنا وأنت. قلت: صدقت يا رسول الله. قال: فاشرب. فشربت فقال: اشرب. فشربت. فما زال يقول اشرب فأشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مساغاً، فأخذ فشرب من الفضلة.
عن أبي هريرة قال خرجت يوماً من بيتي إلى المسجد فوجدت نفراً فقالوا: ما أخرجك؟ قلت: الجوع. فقالوا: ونحن والله ما أخرجنا إلا الجوع. فقمنا فدخلنا على رسول الله فقال: ما جاء بكم هذه الساعة؟ فأخبرناه فدعا بطبق فيه تمر فأعطى كل رجل منا تمرتين فقال: كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما من الماء فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا. فأكلت تمرة وخبأت الأخرى فقال: يا أبا هريرة لم رفعتها؟ قلت: لأمي. قال: كلها فسنعطيك لها تمرتين.
عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله بتمرات فقلت: ادع لي فيهن يا رسول الله بالبركة. فقبضهن ثم دعا فيهن بالبركة، ثم قال: خذهن فاجعلهن في مزود فإذا أردت أن تأخذ منهن فأدخل يدك فخذ ولا تنثرهن نثراً. فقال: فحملت من ذلك التمر كذا وكذا.
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله في غزاة فأصابهم عوز من الطعام، فقال: يا أبا هريرة عندك شيء؟ قلت: شيء من تمر في مزود لي. قال: جئ به. فجئت بالمزود فقال: هات نطعاً فجئت بالنطع فبسطه فأدخل يده فقبض على التمر فإذا هو إحدى وعشرون تمرة، قال: ثم قال: بسم الله فجعل يصنع كل تمرة ويسمي حتى أتى على التمر، فقال به هكذا فجمعه فقال: ادعوا فلاناً وأصحابه. فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا. ثم قال: ادعوا فلاناً وأصحابه. فأكلوا وشبعوا وخرجوا. ثم قال: ادعوا فلاناً وأصحابه. فأكلوا وشبعوا وخرجوا وفضل تمر، فقال لي: اقعد. فقعدت فأكلت وفضل تمر فأخذه فأدخله في المزود، فقال: يا أبا هريرة إذا أردت شيئاً فأدخل يدك فخذ ولا تكفأ فيكفأ عليك. قال فما كنت أريد تمراً إلا أدخلت يدي فأخذت منه خمسين وسقاً في سبيل الله عز وجل فكان معلقاً خلف رحلي.
عبادته:
قال أحدهم: تضيفت أبا هريرة سبعاً فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا ثم يوقظ هذا ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا، قلت: يا أبا هريرة كيف تصوم؟ قال: أصوم من أول الشهر ثلاثاً.
وقال أحدهم: نزلت على أبي هريرة بالمدينة ستة أشهر فلم أر من أصحاب رسول الله رجلاً أشد تشميراً ولا أقوم على ضيف من أبي هريرة.
الأمير:
ابتدأ أمره بالمؤذن: قيل إن النبي أمّر العلاء بن الحضرمي وبعث معه أبا هريرة مؤذناً. ثم استعمل عمر أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف. فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه. فقال أبو هريرة: فقلت لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما. قال فمن أين هي لك؟ قلت: خيل نتجت وغلة رقيق لي وأعطية تتابعت. فنظروا فوجدوه كما قال فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليوليه فأبى، فقال: تكره العمل وقد طلب العمل من كان خيراً منك يوسف عليه السلام فقال: يوسف نبي ابن نبي ابن نبي وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثاً واثنتين. قال: فهلا قلت خمساً. قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينتزع مالي، ويشتم عرضي.
أقبل أبو هريرة في السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان فقال أوسع الطريق للأمير.
صلى بالناس يوما فلما سلم رفع صوته فقال الحمد لله الذي جعل الدين قواما وجعل أبا هريرة إماماً بعد أن كان أجيراً لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجله.
من أقواله:
عن أبي هريرة قال: درهم يكون من هذا، وكأنه يمسح العرق عن جبينه، أتصدق به أحب إلي من مئة ألف ومئة ألف ومئة ألف من مال فلان .
عن أبي هريرة قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: لقد ظننت يا أبا هريرة لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من نفسه.
وفاته:
مات سنة تسع وخمسين وله ثمان وسبعون سنة وهو صلى على عائشة سنة ثمان وخمسين.
وروي أن أبا هريرة بكى في مرضه فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن على بعد سفري، وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود ومهبطة على جنة أو نار، فلا أدري أيهما يؤخذ بي. ودخل الخليفة مروان على أبي هريرة في شكواه فقال: شفاك الله يا أبا هريرة. فقال: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.
وقيل صلى على أبي هريرة الأمير الوليد بن عتبة بعد العصر وشيعه ابن عمر وأبو سعيد ودفن بالبقيع.