هو الإمام الكبير شيخ المقرئين مفتي المدينة أبو سعيد الخزرجي النجاري الأنصاري، كاتب الوحي رضي الله عنه، حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه القرآن بعضه أو كله.
وقد قتل أبوه قبل الهجرة يوم بعاث فتربى زيد يتيماً، وكان أحد الأذكياء، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم أسلم زيد وهو ابن إحدى عشرة سنة.
عن زيد: أُتي بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة، فقالوا: يا رسول الله هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة سورة. فقرأت على رسول الله فأعجبه ذلك، وقال: يا زيد تعلم لي كتاب يهود فإني والله ما آمنهم على كتابي. قال: فتعلمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته وكنت أكتب لرسول الله إذا كتب إليهم.
وصحبه أعمامه معهم إلى غزوة بدر، لكن رسول الله ردّه لصغر سنه وحجمه،وفي غزوة أحد ذهب مع جماعة من أترابه إلى الرسول يحملون اليه ضراعتهم كي يقبلهم فيأي مكان من صفوف المجاهدين، وتقدم أحدهم وهو رافع بن خديج بين يديرسول الله، يحمل حربة، ويحركها بيمينه حركات بارعة، وقال للرسول عليه الصلاةوالسلام: إني كما ترى رام، أجيد الرمي فأْذن لي. وحيّا الرسول هذهالبطولة الناشئة، النضرة، بابتسامة راضية، ثم أذن له. وتقدم ثانيهم وهو سمرة بن جندب، وراح يلوّح في أدب بذراعيهالمفتولين، وقال بعض أهله للرسول: إن سمرة يصرع رافعاً، وحيّاهالرسول بابتسامته الحانية، وأذن له. كانت سن كل من رافع وسمرة قدبلغت الخامسة عشرة، الى جانب نموهما الجسماني القوي. بقي من الأتراب ستةأشبال، منهم زيد بن ثابت، وعبدالله بن عمر، ولقد راحوا يبذلون جهدهموضراعتهم بالرجاء تارة، وبالدمع تارة، وباستعراض عضلاتهم تارة، لكن أعمارهمكانت باكرة، وأجسامهم غضة، فوعدهم الرسول بالغزوة المقبلة. فبدأ زيد دوره كمقاتل في سبيل الله بدءاً من غزوة الخندق، سنة خمس منالهجرة.
كانت شخصيته المسلمة المؤمنة تنمو نموّاً سريعاً وباهراً، فهولم يبرع كمجاهد فحسب، بل كمثقف متنوع المزايا أيضاً، فهو يتابع القرآن حفظاً، ويكتبالوحي لرسوله، ويتفوق في العلم والحكمة، وحين يبدأ رسول الله في إبلاغ دعوته للعالمالخارجي كله، وإرسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها، يأمر زيداً أن يتعلم بعض لغاتهمفيتعلمها في وقت وجيز.
قال زيد: قال لي رسول الله: أتحسن السريانية؟ قلت: لا. قال: فتعلمها. فتعلمتها في سبعة عشر يوماً. وكان رسول الله إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته.
وهكذا تألقت شخصية زيد بن ثابت وتبوأ في المجتمعمكاناً عليّاً، وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم.
وكان عمر يستخلف زيداً في كل سفرعلى المدينة وهو الذي تولى قسمة الغنائم يوم اليرموك.
مهمة جمعالقرآن
إذا حملت المصحف بيمينك، واستقبلته بوجهك، ومضيت تتأنق في روضاته وسوره، سورة سورة، وآية آية، فاعلم أن من بين الذين يستحقون الشكر والعرفان علىهذا الصنع العظيم، رجل اسمه: زيد بن ثابت. وإن وقائع جمع القرآن فيمصحف، لا تذكر إلا ويذكر معها هذا الصحابي الجليل.
خلال سنوات الرسالة كلها، كان الوحي يتنزل، والرسول يتلو، ويبلّغ،وكان هناك ثلة مباركة تستشعر أمانة القرآن من أول يوم، فراح بعضهم يحفظ منه مااستطاع، وراح البعض الآخر ممن يجيدون الكتابة، يحتفظون بالآياتمسطورة.
وخلال إحدى وعشرين سنة تقريباً، نزل القرآن خلالها آية آية، أو آيات،تلو آيات، ملبياً مناسبات النزول وأسبابها، كان أولئك الحفظة، والمسجلون، يوالونعملهم في توفيق من الله كبير.
توافر الحفاظ، والكتبة، على حفظ القرآنوتسجيله، وكان على رأسهم علي ابن ابي طالب، وأبيّ بن كعب، وعبدالله ابن مسعود،وعبدالله بن عباس، وصاحب الشخصية الجليلة التي نتحدث عنها الآن زيد بن ثابت رضيالله عنهم أجمعين.
وخلال الفترة الأخيرة من فترات تنزيله، كان الرسول يقرؤه على المسلمين، مرتباً سورهوآياته. وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام شغل المسلمون من فورهم بحروبالردّة، وفي معركة اليمامة، كان عدد الشهداء من قرّاء القرآن وحفظته كبيراً، فماكادت نار الردّة تخبو وتنطفئ حتى فزع عمر الى الخليفة أبي بكر رضي الله عنهما في إلحاح أن يسارع إلى جمع القرآن قبلما يدرك الموت والشهادة بقية القرّاءوالحفاظ.
واستخار الخليفة ربه، وشاورصحبه، ثم دعا زيد بن ثابت وقال له:إنك شاب عاقل لا نتهمك. وأمرهأن يبدأ بجمع القرآن الكريم، مستعيناً بذوي الخبرة في هذا الموضوع، ونهض زيدبالعمل الذي توقف عليه مصير الاسلام كله كدين.
وأبلى بلاء عظيماً في إنجازأشق المهام وأعظمها، فمضى يجمع الآيات والسور من صدور الحفاظ، ومن مواطنهاالمكتوبة، ويقابل، ويتحرّى،حتى جمع القرآن مرتباًومنسقاً.
ولقد زكّى عملَه إجماعُ الصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا يسمعونهمن رسولهم صلى الله عليه وسلم خلال سنوات الرسالة جميعها، لا سيّما العلماءمنهم والحفاظ والكتبة.
وقال زيد وهو يصوّرالصعوبة الكبرى التي شكلتها قداسة المهمة وجلالها: والله لو كلفوني نقلجبل من مكانه، لكان أهون عليّ مما أمروني به من جمعالقرآن. ونجح في مهمته، وأنجز على خير وجه مسؤوليتهوواجبه.كانت هذه هي المرحلة الأولى فيجمع القرآن.
وعلى الرغم من أن مظاهر التفاوت والاختلاف بين هذه المصاحفكانت شكلية، فان التجربة أكّدت لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وجوب توحيدهاجميعها في مصحف واحد.ففي خلافة عثمان رضي الله عنه، والمسلمون يواصلونفتوحاتهم وزحوفهم، مبتعدين عن المدينة، مغتربين عنها.هنالك تقدم الى الخليفة عثمان فريق منالأصحاب رضي الله عنهم على رأسهم حذيفة بن اليمان مفسرين الضرورة التي تحتم توحيدالمصحف.
واستخار الخليفة ربه وشاور صحبه، وكما استنجد أبوبكر الصديق من قبل بزيد بن ثابت، استنجد به عثمان أيضاً، فجمع زيد أصحابهوأعوانه، وجاؤوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر رضي الله عنها، وكانت محفوظة لديها،وباشر زيد وصحبه مهمتهم العظيمة الجليلة، كان كل الذين يعاونون زيداً منكتاب الوحي، ومن حفظة القرآن، ومع هذا فما كانوا يختلفون، وقلما كانوايختلفون، الا جعلوا رأي زيد وكلمته هي الحجةوالفيصل. والآن نحن نقرأ القرآن العظيمميسّراً، أو نسمعه مرتلاً، فإن الصعوبات الهائلة التي عاناها الذين اصطنعهم اللهلجمعه وحفظه لا تخطر لنا على بال.
تماما مثل الأهوال التي كابدوها،والأرواح التي بذلوها، وهم يجاهدون في سبيل الله، ليقرّوا فوق الأرض ديناً قيماً،وليبددوا ظلامها بنوره المبين.
قالوا عنه:
يقول الشعبي: ذهب زيد بن ثابت ليركب، فأمسك ابن عباس بالرّكاب. فقال له زيد: تنحّ يا ابنعم رسول الله. فأجابه ابن عباس: لا، هكذا نصنع بعلمائنا.
ويقولأحدهم:كان زيد رأساً بالمدينة في القضاء، والفتوى والقراءة،والفرائض.
ويقول ثابت بن عبيد:ما رأيت رجلا أفكه في بيته، ولاأوقر في مجلسه من زيد.
ويقول ابن عباس: لقد علم المحفوظون منأصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم.
وعن الشعبي قال: القضاة أربعة عمر وعلي وزيد وابن مسعود.
وعن سالم كنا مع ابن عمر يوم مات زيد بن ثابت، فقلت: مات عالم الناس اليوم، فقال ابن عمر: يرحمه الله، فقد كان عالم الناس في خلافة عمر وحبرها، فرقهم عمر في البلدان ونهاهم أن يفتوا برأيهم، وحبس زيد بن ثابت بالمدينة يفتي أهلها.
قال علي بن المديني: لم يكن من الصحابة أحد له أصحاب حفظوا عنه وقاموا بقوله في الفقه إلا ثلاثة زيد وعبد الله وابن عباس.
عن يحيى بن سعيد قال: لما مات زيد بن ثابت قال أبو هريرة: مات حبر الأمة ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفاً.
وقال احدهم لما مات زيد جلسنا إلى ابن عباس في ظل فقال: هكذا ذهاب العلماء دفن اليوم علم كثير.
وفاته:
كانت وفاة زيد رضي الله عنه على أرجح الأقوال سنة خمس وأربعين عن ست وخمسين سنة.